نـحـو سيـكـولـوجيـة عـربيـة

 

 

تعيش امتنا العربية، في هذه الايام، حقبة حاسمة من تاريخ نضالها ساعية لاستعادة تنظيمها (Reorganisation) في عالم تعج به الامواج والانواء والاعاصير والتقلبات ويزداد فيه الصراع وتحتدم فيه المنافسات الاقتصادية والتكنولوجية والتطاحن العالمي والاقليمي والمحلي.

وتواجه امتنا العربية كثيرا من التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والفكرية. 

وتقتضي هذه التحديات ان تعمل امتنا العربية - وخاصة علماؤها وباحثوها - على ملاحقة ركب حضارة العصر، تلك الحضارة التي يسير فيها التغيير بخطوات سريعية متلاحقة، فالتطور لا يقف لحظة عند حد معين. الامر الذي يجعل من الضروري ان يقوم علماء هذه الامة باستخدام العلم ومناهجه والياته وادواته في التصدي لما يواجه المجتمع العربي من المشكلات، تصديا علميا، يقوم على البحث والدرس والتخطيط، وسعيا وراء تحقيق التنمية الشاملة، والتقدم والتطور والرخاء والازدهار. وذلك بوضع الحقائق العلمية موضع التطبيق في كافة مجالات الحياة العصرية.

فان امة تلهث انفاسها للحاق بركب الحضارة، لا يمكن ان يكون جهود علمائها ضربا من الترف العلمي او ان يجلس علماؤها في ابراجهم العاجية بعيدا عن معترك الحياة في المجتمع. وهذا ما يفعله، وكثيرون غيره، عالم كبير وباحث مدقق وعربي غيور على عروبته ووظنيته وعلى تخصص العلمي هو الدكتور محمد احمد النابلسي مدير عام مركز الدراسات النفسية بلبنان, فمنذ غير قليل وهو يكرس جهوده من اجل وضع الحقائق والمعطيات والنظريات والمنجزات والمكتشفات العلمية في مجال علم النفس والطب والتربية، وضعها موضع النفاذ والتطبيق، لتعم الفائدة والنفع على عالمنا العربي كله من محيطه الى خليجه.

كرس الدكتور النابلسي جهوده لهذه الرسالة القيمة وبلورها وجمعها في كتاب صدر عن دار الطليعة في بيروت، يحمل عنوانه اسم الدعوة التي نحن يصددها (نحو سيكولوجيا عربية). ومن بالغ اعجابي بهذا الكتاب وصاحبه، اثرت ان اقدم له تحليلا شارحا لمادته وفحواه ودعواه ومتلمسا ما يمكن بين السطور في هذا العمل العلمي الرائد ...... تلك الدعوة التي تنادي، اولا، بتطبيق علم النفس ونشره وتدريسه في كل المؤسسات التعليمية واجراء البحوث الميدانية في هذا المجال الحيوي على امتداد عالمنا العربي، للاستفادة من المبادئ النفسية في تنمية الانسان العربي، واعادة تكوينه وتمتعه بالصحة النفسية والعقلية، وتحقيق تكيفه وسعادته ورفاهته وتقدمه وتطوره، وحمايته من الاصابة بالامراض النفسية والعقلية، والتي يزداد انشارها في هذه الايام الى الحد الوبائي.

المدرسة العربية

يواكب هذه الدعوة العملية التطبيقة في فكر العلامة/محمد النابلسي دعوات اخرى لا تقل اهمية ولا قدرا ولا شرفا عن دعوة التطبيق وهي تكوين مدرسة عربية في علم النفس. بحيث تنبع حقائقها ومعطياتها من الواقع العربي وهو ما زال مجالا خصيا وبكرا امام الباحث العربي في العلوم النفسية. وذلك حتى لا يقال ان علماء النفسي في بلادنا ان هم الا مجرد نقلة ومترجمون للتراث السيكولوجي في بلاد الغرب. واذا كان هذا الوضع صحيحا لاصبح علم النفس المنقول غريبا وبعيدا عن الروح العربي الاصيل. وغير معبر عن اعماق الشخصية العربية... تلك الشخصية التي تربت ونشأت وترعرعت على ضفاف الثقافة العربية، وهي ثقافة. ولا شك، اصيلة وراقية.

والكتاب الذي اشرف بتقديمه للقارئ العربي الكريم عبارة عن حلاصة فكر عالم عربي يمتلئ حسه ووجدانه بالحماسة لكل ما هو عربي ووطني صادق. ولقد أفراد الدكتور النابلسي الفصل الأول من كتابه للدعوة لضرورة قيام « مدرسة عربية للطب النفسي ولعلم النفس » وفي هذا الفصل يورد المبررات الداعية لقيام علم نفس عربي المنشأ والمادة والمنهج ويعني بالشخصية العربية ومشاكلها، وكيفية تنميتها.

ويتبع هذه الدعوى لاقامة « علم نفس عربي ». ضرورة ترجمة التراث العلمي الغربي، مع ضرورة الاتفاق بين العلماء على المصطلحات الفنية المستخدمة في مجال علم النفس وترجماتها من اللغات الأجنبية تسهيلا وتيسيرا للتواصل العلمي بين علماء النفس على امتداد عالمنا العربي.

وبطبيعة الحال كان لا بد للدكتور النابلسي أن يدعو إلى ضرورة التوسع في إجراء البحوث الميدانية العملية على واقع البيئة العربية , ثم توثيق هذه البحوث وربطها بشبكات الحاسب الالي لسهولة تداولها بين المشتغلين بعلم النفس والطب النفسي. ومن ثم التنسيق وتبادل الاستفادة ومنع التكرار وضياع الجهود.

ويمتاز الفكر السيكولوجي عند الدكتور محمد النابلسي بالشمولية والتكامل, وعلم النفس لا يقف في الميدان مستقلا عن غيرة من العلوم والمعارف الأخرى, وانما يتفاعل ويترابط وإياها فيتفاعل مع الطب الأدب والفلسفة والهندسة وعلم الاجتماع واللغويات والتربية.

 وهنا تبدو حقيقية جوهرية في الفكر السيكولوجي عند الدكتور النابلسي مؤداها أن هناك جانبا سيكولوجيا في كل هذه الفروع وتلك المجلات, فالسياسة والطب والعسكرية والاقتصاد والتربية, لا تخلو من وجود عناصر نفسية قوية تحرك العمل في هذه المجلات. ويستعرض د. النابلسي مشكلة من أهم مشاكل التطبيق في مجال علم النفس والتربية وهي تلك المشكلة  المتعلقة بمشروعية تطبيق الاختبارات والمقاييس النفسية المنقولة أو المترجمة عن اللغات الأجنبية. وتتمثل هذه المشكلة في وجوه من يعارض تطبيقها على عينات عربية أو على الشخصية العربية وهي مصممة ومقننة للاستخدام على شخصيات أميركية أو غريبة تربت في ثقافات مغايرة للثقافات العربية, وعلى ذلك لا يصح أن نقارن درجات طفل في أعماق الريف أو الصعيد المصري مثلا بدرجات نده أو زميله الأمريكي.

فقد يكون من السهل ان نسأل الطفل الأميركي. عن طول ارتفاع تمثال الحرية، ولكنه من غير اللائق أن نوجه السؤال ذاته للطفل العربي. ولكن للرد على هذه الاشكالية نقول ان علماء النفس والتربية لا يطبقن الاختبارات الاجنبية  بصورتها الاصلية او ينقلونها نقلا حرفيا وانما يعيدون صياغتها ومفرداتها ويعيدون حساب صدقها وثباتها بتطبيقها على عينات عربية، ويضعون لتفسير حساب صدقها وثباتها بتطبيقها على عينات عربية، ويضعون لتفسير دلالاتها "معايير" مستمدة من التطبيق،على الشخصيات العربية، وبذلك لا نقارن الطفل العربي بطفل امركي، وانما نقارن درجاته بزميله العربي، بل الذي يتحد معها او يتساوي معه في السن والجنس والمستوى التعليمي والاجتماعي والاقتصادي ومحل الاقامة.

ولذلك نبه النابلسي، وبكل الحق، اننا "هنا نستنتج استحالة تطبيق أي اختبار نفسي وفق الاسس والاصول الغربية في مجتمعنا العربي اذ ان القواسم المشتركة تكاد تنعدم نل وتتناقص في اكثر من ناحية ويلخص ذلك في شكل الصعوبات اللغويه، واختلاف النظام الأسري ومكانه الرجل والمرأة واساليب التنشئة الاجتماعية للذكر والانثى في مجتمعنا العربي عن نظائرها في المجتمع الأوروبي.

وينادي الدكتور النابلسي بضرورة صبغة المعالجات النفسية في البيئة العربية بالصبغة العربية والثقافية والأخلاقية. وفي قضية النقل والاقتباص عن الغرب ينبغي ان نقول ان الاقتباص والنقل والاستفادة من حضارة الغرب وعلومه العلاقة بين الطب وعلم النفس يدعو النابلسي الى تحاشي صراع الاختصاص وبدلا منه يدعو الى قيام التعاون بين الطب والمشتغلين به وعلم النفس والقائمين عليه. كما يدعو الى قضية بالغة الاهمية والخطورة وهي ضرورة نشر الوعي النفسي او الثقافة النفسية كسبيل اكيد للوقاية والحماية من الاصابة بالامراض النفسية والعقلية والسيكوسوماتية، وذلك بالاكثار من الندوات وعقد المؤتمرات ونشر الكتب والكتيبات والمجلات القاء المحاضرات العامة في مجال التوعية الصحية.

والحقيقة ان قضية التوعية قضية بالغة الاهمية، فهي تحمي المواطن العربي من الوقوع في مستنقع المرض العقلي. او السقوط بئر الادمان او الوقوع في برائن الجريمة والانحراف والازمات او الوقوع في برائن الجريمة والانحراف والازمات النفسية تبدد طاقة الانسان وتهدها وتشتت الانتباه وتقضي على الطاقة الانتاجية، ولذلك فان العلاج انما هو ضرب من ضروب الاستثمار النافع، وليس من قبيل الخدمات.

وفي مجال العلاج يتحدث د. النابلسي عن ضرورة قيام فريق متنوع التخصص بعملية العلاج بدلا من ان ينفرد به معالج واحد. وذلك استكمالا للصورة المرضية، وشمولا وتبادلا للخبرات. ولا يفوت الدكتور النابلسي ان يدعوى الى ضرورة تأهيل وتدريب الطبيب النفسي تأهيلا علميا واخلاقيا ومهنيا.

ولا ينسى الدكتور النابلسي انه عاش وعاصر وكابد من ويلات الحرب التي اندلعت شرارتها على ارض وطنه الام لبنان الشقيق، ولذلك تحدث عن عصاب الحرب اللبنانية، والهلع من السيارات المفخخة والاضطرابات العقلية والنفسية والعصبية والسيكوسوماتية التي تعقب صدمة الحرب وضغوطها النفسية.

وفي ختام هذه الدراسة الرائدة يستعرض الدكتور النابلسي مناهج البحث في حالات الكارثة، وطرق اجراء فحص الذين يتعرضون للصدمات والتعرف على الاثار الجسمية والنفسية التي تدركها الصدمة في شخصية المصدوم.

ومن امثلة الصدمات الحروب والزلازل والبراكين والفيضانات والسيول.

وبعد، فهذه رحلة عابرة في ارجاء فكر النابلسي السيكولوجي ودعاويه للنهوض بهذا العلم الفتي والشاب والحديث والاستفادة منه الى اقصى درجات الاستفادة في النهوض بعالمنا العربي. وفوق كل شيء في النهوض بالانسان العربي الذي هو اغلى ما نتملكه من ثروات

 

 

 

BACK TO CONTENTS                                                                                                                                         SEND A COMMENT

 

 

 

 

 

Resource :http://www.filnafs.com/fil23.html